تاريخ رحلات الحج على مر العصور
تاريخ رحلات الحج على مر العصور
عبر الزمن، قام عدد لا يحصى من المسلمين الحجاج بقطع مسافات شاسعة لأداء فريضة الحج، ولأنه يعتبر ركن من أركان الإسلام كان الحجاج من جميع أنحاء العالم يذهبون في رحلات الحج التي تستغرق شهورًا وسنوات حتى يصلوا إلى مكة، وكانت لكل قافلة طريق خاص بها، وخطة وبرنامج مختلف تحمل الكثير من المعاناة والحماس والأمل والتجاوزات التي وثقها أهلها بصور مختلفة، كما أن هذه الرحلات المقدسة ساعدت وجود علاقة عميقة بين المؤمنين وإيمانهم، مما أدى إلى تشكيل رابطة تستمر حتى يومنا هذا.
وعلى مر التاريخ الإسلامي، وعلى الرغم من صعوبة الحج، استجاب المسلمون لنداء الله بإخلاص: “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” [ الحج: 27]، ومن أقاصي الأرض الممتدة من المشرق إلى الغرب، انطلق المسلمون في هذه الرحلة المقدسة منذ بدايتها في السنة التاسعة للهجرة، والتي عرفت بحجة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يومنا هذا.
1- رحلات الحج من الأراضي الأفريقية:
على مر التاريخ، كان القيام برحلات الحج من أفريقيا يمثل أخطر المخاطر ويتطلب قطع أكبر مسافة، وكانت أمام الحجاج الأفارقة عدة طرق، لكن الطريق المفضل كان التوجه إلى المغرب والانضمام إلى الحجاج المغاربة، ويتضمن هذا الطريق المرور عبر ليبيا والجزائر برًا، متبعًا ساحل البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم ركوب المراكب إلى مدينة الإسكندرية، وبعد عبور البحر الأحمر المحفوف بالمخاطر، وصل الحجاج أخيرًا إلى جدة، وذلك خاصة خلال فترة احتلال الصليبيين.
في حين اختار العديد من الحجاج الأفارقة الآخرين اجتياز طريق الصحراء الكبرى في طريقهم إلى السودان ومصر، فقد اتخذ الحاج الأفريقي قرارًا واضحًا بالشروع في رحلة إلى جدة، إما عن طريق البحر أو عن طريق تضاريس سيناء الصعبة.
من بين أبرز طرق الحج في أفريقيا الطريق الصحراوي، الذي يبدأ من مدينة تمبكتو، ويمر عبر الجزائر وليبيا، ويصل في النهاية إلى مدن القاهرة والعقبة والمدينة المنورة وجدة عبر ميناء البحر الأحمر، بالإضافة إلى ذلك، يعد طريق الحج الجنوبي من غرب ووسط أفريقيا، الممتد نحو السودان وثم عبور البحر الأحمر إلى جدة، كما أنه يوجد طريقًا مهمًا آخر للحج، وهو الطريق الساحلي المنطلق من شنقيط في موريتانيا، ويمر بمدينتي الرباط وفاس في المغرب، ثم الجزائر وطرابلس، وصولاً إلى القاهرة أيضًا، حتى الوصول إلى مكة.
2- رحلات الحج من قارة آسيا:
على مر التاريخ، كانت رحلات الحج من سنغافورة ومومباي وكلكتا في الهند وكراتشي وجاوا والصين، واعتاد الحجاج من جنوب شرق آسيا السفر عبر موانئ مسقط وعدن والبحر الأحمر للوصول إلى ميناء جدة، ومن هناك ينطلقون في رحلة الحج إلى مكة.
كما أبدى ملوك الهند والمغول الموجودون في شبه القارة الهندية وحكام جنوب شرق آسيا اهتمامًا كبيرًا بترتيب السفن والقوافل لنقل الحجاج إلى مكة والحرم الشريف، وكانت الموانئ الهندية الواقعة على الساحل الغربي للهند وباكستان تعج بالنشاط لتسهيل نقل الحجاج من جنوب آسيا وآسيا الوسطى، في سفن مخصصة خصيصًا لنقل الحجاج، للشروع في رحلة إلى جدة عبر بحر العرب ثم البحر الأحمر.
3- رحلة الحج من الأندلس:
تم توثيق رحلة الحج الأندلسية عبر التاريخ من قبل الرحالة البارزين، بما في ذلك ابن جبير الأندلسي، في عمله الشهير أدب الرحلات، وقام بتسجيل رحلته التي بدأت في غرناطة، وفي يوم الخميس 8 شوال 578 هـ، وبعد عبور مضيق جبل طارق إلى سبتة بالمغرب، انطلق ابن جبير في رحلة بحرية باتجاه صقلية بإيطاليا، حتى وصوله إلى مدينة الإسكندرية، ثم عبر مصر، وأخيرًا عبور البحر الأحمر المحفوف بالمخاطر للوصول إلى مدينة جدة، ويروي ابن جبير في كتاباته التجارب المروعة التي تعرض لها في البحر، حيث كانت سفينته تحت رحمة الأمواج المضطربة، وبعد رحلته البحرية الشاقة، انضم إلى قافلة متجهة إلى مكة.
في روايته أعرب ابن جبير عن استيائه من البيع داخل الحرم، وعندما دخل الكعبة المشرفة، قدم وصفًا دقيقًا بداخلها، وأقام في المدينة عدة أشهر، ثم انطلق في زيارة مدتها أسبوع قبل أن يبدأ رحلة العودة إلى الأندلس عبر بلاد الشام، وسافر عبر منطقة نجد الصحراوية، قبل أن يتجه إلى الكوفة في بغداد، وبعد ذلك اكتشف المدن القديمة في بغداد والموصل وتكريت قبل أن يتجه غربًا إلى بلاد الشام، ويتجول بعدة مدن بها، ثم انطلق مسافرًا في رحلة بحرية إلى جزيرة صقلية عبر البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة الأندلس، قبل أن يعود في النهاية إلى وطنه غرناطة، بعد رحلة شاقة ورائعة امتدت لما يقرب من ثلاث سنوات.
"وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" [ الحج: 27]،